فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب} تقدّم في غير موضع.
{وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} هذا تعجُّب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما.
وقرأ طلحة ابن مُصَرِّف {وهو يَدَّعِي} بفتح الياء والدال وشدّها وكسر العين، أي ينتسب، ويَدّعِي وينتسب سواء.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي من كان في حكمه أنه يُختم له بالضلالة.
قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ}
الإطفاء هو الإخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور.
ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه؛ وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل؛ فيقال: أطفأت السراج؛ ولا يقال أخمدت السراج.
وفي {نوُرَ الله} هنا خمسة أقاويل: أحدها أنه القرآن؛ يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول؛ قاله ابن عباس وابن زيد.
والثاني أنه الإسلام؛ يريدون دفعه بالكلام؛ قاله السُّدِّي.
الثالث أنه محمد صلى الله عليه وسلم؛ يريدون هلاكه بالأراجيف؛ قاله الضحاك.
الرابع حجج الله ودلائله؛ يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم؛ قاله ابن بحر.
الخامس أنه مثَل مضروب؛ أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلًا ممتنعًا فكذلك من أراد إبطال الحق؛ حكاه ابن عيسى.
وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يومًا؛ فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتّم أمره؛ فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها؛ حكى جميعَه الماوردِيّ رحمه الله.
{والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي بإظهاره في الآفاق.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {والله مُتِمُّ نُورِهِ} بالإضافة على نية الانفصال؛ كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] وشبهه، حسب ما تقدم بيانه في (آل عمران).
الباقون {مُتِمُّ نُورِهِ} لأنه فيما يستقبل؛ فعمِل.
{وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} من سائر الأصناف.
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي محمدًا بالحق والرشاد.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي بالحجج.
ومن الظهور الغلبَةُ باليد في القتال؛ وليس المراد بالظهور ألاّ يبقى دين آخر من الأديان، بل المراد يكون أهل الإسلام عالين غالبين.
ومن الإظهار ألاّ يبقى دين سوى الإسلام في آخر الزمان.
قال مجاهد: وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلاّ دين الإسلام.
وقال أبو هريرة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} بخروج عيسى.
وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينزلنّ ابن مريم حَكَمًا عادلًا فَلَيَكْسِرَنّ الصليب وَلَيَقْتُلَنّ الخنزير وَلَيَضَعَنّ الجِزْيَةَ وَلتُتْرَكنّ القِلاص فلا يُسْعَى عليها ولَتَذْهَبَنَّ الشَّحْناءُ والتبّاغُضُ والتّحاسدُ ولَيَدْعونّ إلى المال فلا يَقْبَلُهُ أحَدٌ» وقيل: {لِيُظْهِرَهُ} أي ليطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان؛ حتى يكون عالمًا بها عارفًا بوجوه بطلانها، وبما حَرّفوا وغَيرّوا منها.
{عَلَى الدين} أي الأديان؛ لأن الدين مصدر يعبّر به عن جمع. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَنْ أظْلَمُ ممَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهَ الكَذبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلاَم} أي أي الناس أشد ظلمًا ممن يدعي إلى الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله عز وجل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرًا فإن الافتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المن في أي لا أظلم من ذلك، والمراد أنه أظلم من كل ظالم، وقرأ طلحة {يدعي} مضارع ادعى مبنيًا للفاعل وهو ضميره تعالى، و{يدعي} بمعنى يدعو يقال: دعاه وادعاه نحو لمسه والتمسه، وقيل: الفاعل ضمير المفتري، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيًا أنه مسلم وليس بذاك، وعنه {يدعي} مضارع ادعى أيضًا لكنه مبني للمفعول، ومعناه كما سبق، والآية فيمن كذب من هذه الأمة على ما يقتضيه ما بعد، وهي إن كانت في بني إسرائيل الذين جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم.
{وَاللَّهُ لاَ يَهْدي القَوْمَ الظالمين} أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه.
{يُريدُونَ ليُطْفئُوا نُورَ الله بأفْوَاههمْ} تمثيل لحالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكمًا وسخرية بهم كما تقول الناس: هو يطفئ عين الشمس، وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الله دينه تعالى الحق كما روي عن السدي على سبيل الاستعارة التصريحية، وكذا في قوله سبحانه: {وَاللَّهَ مُتمُّ نُوره} و{متم} تجريد، وفي قوله تعالى: {بأفواههم} تورية، وعن ابن عباس.
وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول، وقال ابن بحر: يريدون إبطال حجج الله تعالى بتكذيبهم، وقال الضحاك: يريدون هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم بالأراجيف، وقيل: يريدون إبطال شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإخفاء ظهوره بكلامهم وأكاذيبهم، فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يومًا فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت {يريدون} إلى آخره، وفي {يريدون ليطفئوا} مذاهب: أحدها أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها، وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في: لا أبالك لتأكيد معنى الإضافة؛ ثانيها أنها غير زائدة للتعليل، ومفعول {يريدون} محذوف أي يريدون الافتراء لأن يطفئوا، ثالثها أن الفعل أعني {يريدون} حال محل المصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للإطفاء، والكلام نظير تسمع بالمعيدي خير من أن تراه من وجه، رابعها أن اللام مصدرية بمعنى أن من غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر، خامسها أن {يريدون} منزل منزلة اللازم لتأويله بيوقعون الإرادة، قيل: وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للإطفاء وفيه كلام في (شرح المغني) وغيره.
وقرأ العربيان، ونافع، وأبو بكر، والحسن، وطلحة، والأعرج، وابن محيصن {متم} بالتنوين {نوره} بالنصب على المفعولية لمتم {وَلَوْ كَرهَ الكافرون} حال من المستكن في {متم} وفيه إشارة إلى أنه عز وجل متم ذلك إرغامًا لهم.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم {بالْهُدَى} بالقرآن، أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهدى مبالغة {وَدين الحَقِّ} والملة الحنيفية {ليُظْهرَهُ عَلَى الدين كُلِّه} ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولقد أنجز الله عز وجل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وعن مجاهد إذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام، ولا يضر في ذلك ما ورد من أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الاستمرار، وقيل: المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أبدًا {وَلَوْ كَرهَ المُشْركُونَ} ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك، وقرئ {هو الذي أرسل نبيه}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ}
كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة دعوة عيسى عليه السلام وكان جواب الذين دعاهم إلى الإِسلام من أهل الكتابين والمشركين مماثلًا لجواب الذين دعاهم عليه السلام.
فلما أدمج في حكاية دعوة عيسى بشارته برسول يأتي من بعده ناسب أن ينقل الكلام إلى ما قابل به قوم الرسول الموعود دعوة رسولهم فلذلك ذكر في دعوة هذا الرسول دين الإِسلام فوصفوا بأنهم أظلم الناس تشنيعًا لحالهم.
فالمراد من هذا الاستفهام هم الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عطف هذا الكلام بالوَاو ودون الفاء لأنه ليس مفرعًا على دعوة عيسى عليه السلام.
وقد شمل هذا التشنيع جميع الذين كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين والمشركين.
والمقصود الأول هم أهل الكتاب، وسيأتي عند قوله تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله} إلى قوله: {ولو كره المشركون} [الصف: 8، 9] فهما فريقان.
والاستفهام بـ {من أظلم} إنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء فالمكذبون مِن قبلهم، إما أن يكونوا أظلم منهم وإمّا أن يساووهم على كل حال، فالكلام مبالغة.
وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بنسْبِته إلى ما ليس فيه إذ قالوا: هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة، فيعرضوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر الصحيح حتى يعلموا صدقه، وظلموا ربهم إذ نسبوا ما جاءهم من هديه وحجج رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ليس منه فسموا الآيات والحجج سحرًا، وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإِنجيل مُثبتة صدق رسول الإِسلام صلى الله عليه وسلم وكمل لهم هذا الظلم بقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين}، فيعلم أنه ظلم مستمر.
وقد كان لجملة الحال {وهو يدعى إلى الإسلام} موقع متين هنا، أي فعلوا ذلك في حين أن الرسول يدعوهم إلى ما فيه خيرهم فعَاضوا الشكر بالكفر.
وإنما جُعل افتراؤهم الكذب على الله لأنهم كذبوا رسولًا يخبرهم أنه مرسل من الله فكانت حُرمة هذه النسبة تقتضي أن يُقبلوا على التأمل والتدبر فيما دعاهم إليه ليصلوا إلى التصديق، فلما بادروها بالإِعراض وانتحلوا للداعي صفات النقص كانوا قد نسبوا ذلك إلى الله دون توقير.
فأما أهل الكتاب فجحدوا الصفات الموصوفة في كتابهم كما قال تعالى فيهم {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} في سورة [البقرة: 140].
وذلك افتراء.
وأما المشركون فإنهم افتروا على الله إذ قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91].
واسم {الإسلام} عَلم للدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جامع لما فيه خير الدنيا والآخرة فكان ذكر هذا الاسم في الجملة الحالية زيادة في تشنيع حال الذين أعرضوا عنه، أي وهو يُدعى إلى ما فيه خيره وبذلك حق عليه وصف {أظلم}.
وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تأييس لهم من الإِقلاع عن هذا الظلم، أي أن الذين بلغوا هذا المبلغ من الظلم لا طمع في صلاحهم لتمكُن الكفرِ منهم حتى خالط سجاياهم وتقوّم مع قوميتهم، ولذلك أقحم لفظ {القوم} للدلالة على أن الظلم بلغ حدَّ أن صار من مقومات قَوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
وتقدم غير مرة.
وهذا يعم المخبر عنهم وأمثالهم الذين افتروا على عيسى، ففيها معنى التذييل.
وأسند نفي هديهم إلى الله تعالى لأن سبب انتفاء هذا الهدي عنهم أثر من آثار تكوين عقولهم ومداركهم على المكابرة بأسباب التكوين التي أودعها الله في نظام تكوّن الكائنات وتطورها من ارتباط المسببات بأسبابها مع التنبيه على أن الله لا يتدارك أكثرهم بعنايته، فمُغَيِّر فيهم بعض القوى المانعة لهم من الهدى غضبًا عليهم إذ لم يخلفوا بدعوة تستحق التبصر بسبب نسبتها إلى جانب الله تعالى حتى يتميز لهم الصدق من الكذب والحق من الباطل.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}
استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يُدعون إلا الإِسلام لأنه يثير سؤال سائل عما دعاهم إلى هذا الافتراء.
فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإِسلام عن الناس ويعوقوا انتشاره ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتّلصّص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء.
فلاحت له ذُبالة مصباح تضيء للناس، فكرهوا ذلك وخشُوا أن يُشعَّ نوره على الناس فتفتضح ترهاتهم، فعمدوا إلى إطفائه بالنفخ عليه فلم ينطَفِئْ، فالكلام تمثيل دال على حالة الممثل لهم.
والتقدير: يريدون عوق ظهور الإِسلام كمثل قوم يريدون إطفاء النور، فهذا تشبيه الهيئة بالهيئة تشبيه المعقول بالمحسوس.
ثم إن ما تضمنه من المحاسن أنه قابِل لتفرقة التشبيه على أجزاء الهيئة، فاليَهود في حال إرادتهم عوق الإِسلام عن الظهور مشبَّهون بقوم يريدون إطفاء نور الإِسلام فشبه بمصباح.
والمشركون مثلُهم وقد مُثّل حال أهل الكتاب بنظير هذا التمثيل في قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله} إلى قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره} الآية في سورة [براءة: 30- 32]، ووصفهم القرآن بأنه سحر ونحو ذلك من تمويهاتهم، فشبه بنفخ النافخين على المصباح فكان لذكر {بأفواههم} وقع عظيم في هذا التمثيل لأن الإِطفاء قد يكون بغير الأفواه مثل المروحة والكِير، وهم أرادوا إبطال آيات القرآن بزعم أنها من أقوال السحر.
وإضافة نور إلى اسم الجلالة إضافة تشريف، أي نورًا أوقده الله، أي أوجده وقدَّره فما ظنكم بكماله.
واللام من قوله: {ليطفئوا} تسمّى اللام الزائدة، وتفيد التأكيد.
وأصلها لام التعليل، ذُكِرت علةُ فعل الإِرادة عوضًا عن مفعوله بتنزيل المفعول منزلة العلة.
والتقدير: يريدون إطفاء نور الله ليطفئوا.
ويكثر وقوع هذه اللام بعد مادة الإِرادة ومادة الأمر.
وقد سماها بعض أهل العربية: لام (أَنْ) لأن معنى (أَنْ) المصدرية ملازم لها.
وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة [النساء: 26].
فلذلك قيل: إن هذه اللام بعد فعل الإِرادة مزيدة للتأكيد.
وجملة {والله متم نوره} معطوفة على جملة {يريدون} وهي إخبار بأنهم لا يبلغون مرادهم وأن هذا الدِّين سيتم، أي يبلغ تمام الانتشار.
وفي الحديث «والله لَيِتَمَّن هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنَعاء إلى حضرَموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
والجملة الاسمية تفيد ثبوت هذا الإِتمام.
والتمام: هو حصول جميع ما للشيء من كيفية أو كمية، فتمام النور: حصول أقوى شعاعه وإتمامه إمداد آلته بما يقوى شعاعه كزيادة الزيت في المصباح وإزالة ما يغشاه.
وجملة {ولو كره الكافرون} حالية و{لو} وصلية، وهي تدل على أن مضمون شرطها أجدر ما يُظَنُّ أن لا يحصل عند حصوله مضمونُ الجوَاب.
ولذلك يقدِّر المعربون قبله ما يدلّ على تقدير حصول ضد الشرط.
فيقولون هذا إذا لم يكن كذا بل وإن كان كذا، وهو تقدير معنى لا تقدير حذف لأن مثل ذلك المحذوف لا يطرد في كل موقع فإنه لا يستقيم في مثل قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17]، إذ لا يقال: هذا إذا كنّا كاذبين، بل ولو كنا صادقين.
وكذلك ما في هذه الآية لأن المعنى: والله متمّ نورَه على فرض كراهة الكافرين، ولما كانت كراهة الكافرين إتمام هذا النور محققةً كان سياقها في صورة الأمر المفروض تهكمًا.
وتقدم استعمال (لو) هذه عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91].
وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يُظنّ انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء وصرفهم عنه بوجوه المكر والخديعة والكيد والإِضرار.
وشمل لفظ {الكافرون} جميع الكافرين بالإِسلام من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
ولكن غلب اصطلاح القرآن على تخصيص وصف الكافرين بأهل الكتاب ومقابلتهم بالمشركين أو الظالمين ويتجه على هذا أن يكون الاهتمام بذكر هؤلاء بعد {لو} الوصلية لأن المقام لإِبطال مرادهم إطفاء نور الله فإتمام الله نوره إبطال لمرادهم إطفاءَه.
وسيرد بعد هذا ما يبطل مراد غيرهم من المعاندين وهم المشركون.
وقرأ نافع وأبو عَمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {متمٌ نورَه} بتنوين {متمٌ} ونصب {نورَه}.
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف بدون تنوين وجَرّ {نورِه} على إضافة اسم الفاعل على مفعوله وكلاهما فصيح.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
هذا زيادة تحدِّ للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله: {والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 8].
وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله.
فقد أفاد تعريفُ الجزأيْن في قوله: {هو الذي أرسل رسوله} قصرًا إضافيًا لقلب زَعْم الكافرين أن محمّدًا صلى الله عليه وسلم أتى من قِبَل نفسه، أي الله لا غيره أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق.
وأن شيئًا تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله.
وتعليل ذلك بقوله: {ليظهره على الدين كله} إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زمانًا طويلًا حتى تنصَّر قسطنطينُ سلطانُ الروم، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإِسلام على جميع الأديان عُلم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتمّ المراد.
والإِظهار: النصر ويطلق على التفضيل والإِعلاء المعنوي.
والتعريف في قوله: {على الدين} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام.
ويظهر أن لفظ {الدين} مستعمل في كلا معنييه: المعنى الحقيقي وهو الشريعة.
والمعنى المجازي وهو أهل الدّين كما تقول: دخلت قرية كذا وأكرمتني، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعًا وآدابًا، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلًا دون جيل.
وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقُّونهم في مدة ظهوره حتى يتمّ أمره ويستغني عمن ينصره.
وقد تمّ وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أممًا كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم، فأمّا الدين فلم يزل عاليًا مشهودًا له من علماء الأمم المنصفين بأنه أفضل دين للبشر.
وخص المشركون بالذكر هنا إتمامًا للذين يكرهون إتمام هذا النور، وظهور هذا الدين على جميع الأديان.
ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الدين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك. اهـ.